التبويبات الأساسية

د. آمال جبور- ما زال ملف الصحراء المغربية محل تجاذب دبلوماسي وسياسي في مساره الأممي، بين المغرب الذي قدم مبادرة الحكم الذاتي لانهاء النزاع عام 2007، وجبهة البوليساريو التي تطالب بالانفصال، واقامة الجمهورية الصحراوية.
و مع مرور الوقت، بدأ الملف يشهد تحولات لافتة في مواقف دول عدة، نحو المقترح المغربي، واهمها الدائمة العضوية في مجلس الأمن، ومنها: الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا، وأخيرا المملكة المتحدة، وذلك بعد مواقف اتسمت بالحياد والحذر لعقود طويلة، الامر الذي يعكس تغييرا في الرؤية الدولية لهذا النزاع الذي بدأ مع خروج الاستعمار الإسباني من الصحراء المغربية عام 1975.
فما الأسباب وراء هذه التحولات، وما خلفياته ودلالاته السياسية والجيواستراتيجية؟
منذ ان طَرح المغرب مبادرة الحكم الذاتي عام 2007، والملف يحيطه الجمود و المواقف المحايدة، دون الدخول في تفاصيل حسمه منذ احالته إلى الأمم المتحدة.

الى ان جاءت أبرز تحولات الملف، التي أثرت بشكل عميق في مساره، مع الموقف الأمريكي عام 2020 بإعلان ترامب "اعتراف واشنطن -ولأول مرة- بسيادة المغرب الكاملة على منطقة الصحراء المغربية"، ضمن سياقات سياسية دولية، توافقت بها المصالح الامريكية مع عقيدة المغرب السياسية تجاه أهم ملفاتها، مما أفضى إلى اعادة ترتيب أوراق الملف سياسيا ودبلوماسيا، واتساع رقعة الدعم الدولي له ليشمل: اسبانيا وألمانيا وهولندا وبلجيكا وفرنساوالمملكة المتحدة .

وقد شكل الاعتراف الأمريكي بسيادة المغرب على الصحراء فيما بعد حرجا لإسبانيا، باعتبارها الدولة ذات التاريخ الاستعماري في الصحراء، والمطلعة على أدق تفاصيله، ما دفع رئيس حكومتها بيدرو سانشيز إلى إعلان دعم بلاده لمقترح الحكم الذاتي المغربي عام 2022 ؛ كونه " الحل الاكثر جدية ومصداقية"، موازنة مدريد بهذه الخطوة علاقتها الدقيقة مع الرباط، بعد سنوات طويلة من المد والجزر، بقضايا وجودية وأخرى سياسية دبلوماسية اهمها استقبال زعيم البوليساريو في مدريد، مما قَدم وقتها دلالات سياسية مهمه أثرت في مسار الملف إقليميا ودوليا.
وجاءت الانعطافة الأخرى للملف مع تحول في الموقف الفرنسي عام 2024 ، بعد حسم باريس لملفات عدة عالقة مع الجوار المغربي، لتنحاز بشكل واضح مع مغربية الصحراء، وتعلن بشكل صريح دعمها لمخطط الحكم الذاتي، بخطاب قدمه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أمام البرلمان المغربي يؤكد به "أن حاضر الصحراء ومستقبلها يندرجان في إطار السيادة المغربية”.

وتَشَكلت القفزة المهمة في الملف، بالدعم البريطاني للمخطط المغربي قبل أسابيع، بعد عقود من الحذر والحياد المعهود للسياسة البريطانية ازاء الملفات الحساسة كملف الصحراء، ، عبر تصريح لوزير خارجيتها ديفيد لامي في حزيران 2025 يوضح فيه" أن لندن ترى الحكم الذاتي الأساس الأكثر مصداقية وقابلية للتطبيق وبراغماتية والأقرب لتسوية هذا النزاع".
وبالتالي، بما ان مواقف القوى الكبرى الفاعلة اصبحت أكثر انصاتا للمقاربة المغربية، فإن ذلك يقود بالضرورة الى تبني الدول حاملة القلم رؤية دولية مشتركة لحسم ملف الصحراء وانهائه تجاه مبادرة الحكم الذاتي، التي يتوقع أن تلاقي انفراجات في إطارها الأممي في الشهور القليلة المقبلة.

والسؤال الحاضر بقوة بعد كل هذه المواقف : لماذا جاءت هذه التغيرات في السنوات الاخيرة تباعاً، من دول دائمة العضوية في مجلس الأمن، لملف تجاوز 50 عاما في مساره الأممي بعد جمود وحياد وحذر دون حل؟
فأقول:
اولا: من المعلوم للجميع، ان بوصلة الدول الفاعلة، وتحديدا الغربية والامريكية تتجه بالدرجة الاولى نحو مصالحها، وحسم ملف الصحراء اليوم ضمن السيادة المغربية، وذلك ضمن استراتيجية تلك الدول للحفاظ على مصالحها، واستقرار جوارها الإقليمي، وبالتالي فهي بحاجة الى شريك موثوق ومستقر سياسيا كالمغرب، يشهد حاليا تطويرا لبنيته التحتية،وتعزيز علاقاته مع العمق الافريقي على الصعيد الاقتصادي والاستثماري والامني.

ثانيا: بالنسبة الى اوروبا التي تواجه تحديات أمنية وعسكرية، ضاعفتها الحرب الروسية الأوكرانية، تحاول أن يكون جنوب المتوسط آمنا مستقرا، خصوصا مع الحرب الروسية الأوكرانية، فمن مصلحتها إنهاء النزاع في الصحراء الذي يتغذى بمصالح قوى تعمل على تصاعد النزعات الانفصالية في القارة الإفريقية مثل ايران.

ثالثا: الرؤية الأمريكيةالبراغماتية وقراراتها الجمركية نحو شريكها التاريخي الاتحاد الاوروبي، جاءت صفعة ايقظ دول مثل فرنسا وبريطانيا لإعادة حساباتها مع العالم، والقارة الافريقية تحديدا، التي بدأت تفقد نفوذها الكولونالي بها مما يدفعها إلى إعادة تموضعها من جديد عبر بوبات استثمارية واقتصادية، ويمثل المغرب اهم نموذج لها في الشمال الافريقي.

رابعا: افضت الحروب الراهنة كحرب (اسرائيل-غزة- اليمن) إلى تأكيد أهمية الممرات والمعابر المائية والموانئ، مما يجعل من المغرب شريكا جذابا في الشمال الافريقي بالنظر إلى حدوده المائية المتوسطية والاطلسية المطلة على اضخم مشروع لميناء (الداخلة) كبوابة أطلسية للعمق الافريقي، و هذا الأطلسي الذي بقي تاريخيا غربيا بامتياز، سيدفعها للحفاظ على حضورها، أمام التمدد الصيني التنموي، والدخول الرسمي الروسي أخيرا، عبر البوابة العسكرية " لفيلق افريقيا" الذي بدأ يؤرقها.

كل هذه المعطيات، تدل على أن التحولات الأخيرة في مواقف الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن، يعكس ادراكها لتقاطع مصالحها السياسية والاقتصادية والأمنية مع الموقف المغربي، وفرضت عليهم تبنّي نهجا براغماتيا في تعطيهم مع ملف الصحراء، كملف سياسي، تنظر من خلاله لملفاتها المختلفة، في وقت يعيد به العالم رسم خرائطه وتحالفاته السياسية، وتلعب الملفات الاقتصادية والأمنية دورا حاسما في رسم مواقف الدول الكبرى تجاه الملفات الحساسة كملف الصحراء المغربية.

صحفية وكاتبة اردنية

صورة editor17

editor17